رواية تيتوس
د منال الشربيني مصر 🇪🇬
الفصل ١٤
ها هي سعدية، تقترب من سيارتنا، وتلوِّحُ لنا، وسرعان ما أشعلت النيران.. نيران الكانون.
كانت سعدية تنتهز فرصةَ وجودِنا، كي تبوح لنا بكل أوجاعها، كانت زوجة أخيها لعنة كبرى في حياتها، بها يأتمر أخوها، وبها تموت أو تنجو من غِلْظته، وكثيرًا ما ماتت، كانت تُجِيد الشكوى، وتَتَلمَّس الخَلاصَ في وجوهِ العابرينَ، لعلها تجد على الشكوى رجلا يتزوجها ويأخذ حقها ويحميها، ولكن ذلك بالنسبة لها أمر محال "المتعوس متعوس"، "قليل البخت يلاقي العضم في الكرشة"، هكذا كانت تجيبنا دومًا، يصعد الأسى من صدرها ويهبط، ويحترق مع كل زفير في ثغر الكانون، وكان تيتوس ينصت إلى شكواها باهتمام رجل القانون، فلما علمت أنه محامٍ، قالت:
- تفتكر ياسعادة البيه اعرف آخد حقي بالشرع؟ أصل هنا في البلد مش كل الناس بيدوا حقوق البنات..فيه ناس بيقسِّموا قِسْمة الحق، وفيه ناس بيقبلوا...
طبعا.. لو عاوزانى أساعدك أنا جاهز.
- بجد يا بيه؟ بس انا ما حيلتيش فلوس، انا حيلتي طين بس.
ولا يهمك.. لما تاخدي ورثك آخد حقي.. ايه رأيك؟
- بس لو اخويا عرف يقتلني يابيه، والناس تقول اخته البنت فضحته وجرَّسته في المحاكم. خلاص مش مهم، حقي عند ربنا بقى.
- عارفة يا سعدية، لو اتجوزتي راجل صح، حيجيب لك حقك من بق السبع.
هنا، لمعت عينا سعدية، ثم انطفأتا ثانية، قالت:
-ومين ده اللي يرضى بيَّّ يابيه؟ على إيه ياحسرة؟ أكيد اللي حيبُص لي حيكون عشان ورثي مش عشاني، أنا عاوزة راجل يتجوزني عشاني يابيه.
- طيب ما تتجوزيني أنا.. وأنا ألاعبهم لك على الشَّناكل، قال تيتوس ذلك بلهجة مازحة، ولكن، تقول جدتي: "عاوزة تعرفي اللي في قلب حد بجد، ركزي كويس في كلامه معاكي وقت المزاح، المزاح هو كل الجد." ياخبر!!، معقولة؟ تيتوس؟؟؟!! آااه، أبي! يا ساحة الخيل القديمة، يالبرااااح، قم! أنا بحاجتك الآن.
لمعت عينا سعدية ثانية، وتبدَّلت نظرةُ عينيها وغابت عن المكان طويلا، ثم ابتسمت له، وكأنما تخيلت نفسها عروسًا لتيتوس. ولِمْ لا؟! هي أنثى، نشترك جميعًا في التكوين النفسي، والبيولوجي، العصبي، والهرمونات، ولنا نفس الاحتياجات المادية، ياربي، ماذا لو خلعت سعدية وجهها البائس، وابتسمت، ورأى فيها تيتوس الأنثى الكامنة وراء الثلج؟ ولِمْ لا؟ فالرجل رجل، تأْسرُهُ المرأةُ الخانِعة الخاضِعة، ومَن أفْضلَ من سعدية لإتقان هذا الدور؟ أعرف إحدى قريباتي "بتعرف الكُفت" على رأي "أم سعاد" شغالة أمي، لكنها تمارس دور قطة البيت العاجزة عن العيش بعيدًا عن زوجها، لا تنام إلا بجواره، ولا تخرج إلا معه، ولا تجيب على الهاتف إلا إن سمح لها ولقَّنها ما تقول، ولا تجادل في أية مواضيع قبل عرضها عليه، ولا تعرف من الكلام إلا "مش عارفة، اسألوا سيد" هههه، لا تعرف كيف تطهو القلقاس لكنها تحبه من يده، هي مثل سعدية تمامًا، تراها أسذج خلق الله، بس هي "حَويْطة" عارفة مفتاحه... هل يمكن أن تكون سعدية "حويطة؟"
لقد سمعت تيتوس يقول لخميس صديقه: "مش بالجمال يا صاحبي"، استر يارب.
ولم أفق من جنوني إلا على صوت سعدية، تقول برقة لم أعْهدها: واحنا نيجي ايه بس يا بيه في جمال الست هانم وبياضها وحلاوتها؟!
قلت في نفسي: "إيه؟ دي بتعيش الدور، يلا يا حلوة، لمِّي جَوَاميسك، الشمس على وش غروب، أخوكي ومراته حلال فيكي، البيوت مقفُولة على مصايب، وأنا مش ناقصة، أنا هربانة من الهَمّ، وصرت ألملم حاجياتنا ونظرت إلى وجه تيتوس، فلمح الغيرة، فابتسم، وصار يساعدني في نقل الحاجيات إلى السيارة، ولم يتكلم أحدنا طوال الطريق، ثم فجأة قال:
- مِنْ سعدية يا سوزي؟!! دي بت غلبانة، دي تروح كوافير يظبطها، وشوية صنفرة وكعب عالي، وشعر أحمر، واتفرجي عليها (كان تيتوس يقول ذلك ويقهقه عاليًا).
ياسلاااام؟!!! لقد تخيلها بنت مودرن الأخ.. يا خبر؟ هي سعدية ممكن تشعشع في دماغ تيتوس؟ استر يارب. حماااااتي، الحقيني!!!
يُتْبَع...
الشربيني، م.(٢٠٢٥)، تيتوس ، رواية، ط١، دار طيوف للطباعة والنشر، القاهرة.
0 تعليقات